كنوز مدفونة في العراء

عبر سنوات الاغتراب التي تربو على ربع قرن، جبت لندن من أقصاها إلى أقصاها، توطدت معرفتي بجهاتها الأربع والوسط. سكنت حينا من الدهر في الطابق الرابع من بناية قديمة دون مصعد، سلالمها متهالكة تهددك بالانزلاق في كل خطوة، تركتها لمثابة «فوق السطوح» ضيقة كزنزانة، سقفها الواطئ من زجاج، يعزف عليه المطر كلما حلا للسماء أن تتعطر، تلامس حفافي السقف الغيوم، حتى ليخيل لي أن كفي ستغمر بالندى لو مددت ساعدي لأمسك أطراف سحابة عابرة.
أقمت زمنا في غرفة بسرداب عميق رطب «البدروم»، كنت أضيء عتمتها بالشموع حتى في عز الظهيرة، وأحتمل، على مضض روائح الشمع المنصهر ودخان الفتائل المنطفئة، تركتها لغرفة في الطابق الثاني، مساحتها متران في مترين، كان زواري يرونها قبرا، وأراها واحة، الكتب معرشة على جدرانها، ونافذتها الوسيعة تطل على حديقة عامرة بأشجار التفاح والتين والكمثرى وحقول نبات الريحان، ثم عدت وارتحلت، وعاودت الارتحال مرارا وتكرارا.
في سنوات الانتقال تلك كنت أتعزى وأتصبر: الغد أفضل من اليوم، وأستحضر مقولة صوفية: السعيد هو الذي لا يملك شيئاً ولا يتملكه شيء. لذا ولأخفف من حملي تخلصت من أشياء كثيرة، بإهدائها للجمعيات الخيرية أو الأصدقاء، تخليت عن ملابس أثيرة لدي، وأحذية لم تدشن بعد، وأدوات مطبخ ضرورية ومنتقاة، وقطع أثاث متواضع ولكنه نفيس، ولوحات مستنسخة قيّمة، وستائر وفرش، و..و.. شيء واحد لم أجرؤ على مسه أو التفريط ولو بجذاذة من جذاذاته: (الكتب) التي ظلت تتناسل رغما عن إمكاناتي المتواضعة (وأرشيف الصحف) الذي اقتطعته وسعدت بقطافه، لأسماء وعناوين وفحوى. و(الرسائل)؛ كنت أحرص على حملها جمعاء في حلي وترحالي، أفرد لها ظهري وصدري وساعدي، أتعزى بالذي جمعت عما فرطت.

كان بيتي ببغداد مؤثثا بالكتب، فهارس ومعاجم ومؤلفات ودواوين شعر، كنوز معارف بعضها مهداة من مؤلفيها الكبار، الكبار بعطائهم، أساتذتي في المعرفة، لن أتوكأ على أسمائهم في هذه العجالة، بعضهم انتقل لجوار ربه، والبعض، أطال الله أعمارهم، على لائحة الانتظار، على تلك الكتب بصمات هداياهم، وتواقيعهم، وشميم أنفاس تعابيرهم البليغة العفيفة العذبة، تلك الكنوز أودعتها في بيت بعيد، لتفتك بها «الأرضة» وتتلاقفها أيادي الغرباء بددا. أحزن وأتصبر وأسلو، وعزائي مكتبتي الوليدة، المعبأة، لضيق المكان، بالصناديق والحقائب، الآن حين يتكالب عليّ المرض وأتوقع رحيلا، مهما نأيت عنه، اقترب، تصيبني غمة، فمن ذا الذي سيطيل الصبر للمّ شعاب كل هذي الكتب وقصاصات الأرشيف، ومن هو ذاك الذي سيشم عبق الرسائل وشذى الكلمات؟ قبل أن يرميها في سلة المهملات؟
يعتصر كياني ألم ممض كلما هوى طود شامخ في العطاء والإبداع والريادة، أين ستركن كل مقتنياته المعرفية؟ مسودات أعماله، شخبطاته، محوه وشطبه، منضدة كتاباته، سريره، فرشه، مشجب ملابسه.


عندما ارتحل الفنان شاكر حسن آل سعيد، قرأت أن جل أعماله، التي لم يكتب لها أن ترى النور، مركونة في غرفة معتمة رطبة في الطابق السفلي في منزل شبه مهجور، الله وحده يعلم مآلها التعس، وعرفت أن ليوسف الصائغ رسومات ومسودات لم تر النور وشخابيط، وبوح على الورق كتبه كسر أسراره، وعندما ارتحل الوردي علي ومدني صالح وحسين علي محفوظ، والوائلي، وإبراهيم السامرائي. أين إرثهم الأدبي والمعرفي أين إرث فؤاد عباس؟ والمؤرخ العزاوي؟ والصائغ يوسف والتكرلي فؤاد؟ والخليلي جعفر وعبدالغني؟ والجادر خالد؟ والأخوة نزار ونزيهة وجواد سليم؟ وقاسم محمد؟ وعشرات غيرهم، ناهيك عن السياب بدر، والملائكة نازك، والحيدري بلند، والبياتي عبدالوهاب، من يستطيع لملمة كل تلك الإشعاعات وتصنيفها وترتيبها وعرضها، شهادات لا تقبل النقض، على هذا الجيل الضائع الذي لم يعش سوى الأزمات، ولم يشهد غير راجمات الحروب وتبادل الأحقاد والضغائن، ولا تتملكه إلا نزعة «الأنا»، والبحث عن لقمة العيش ولو بحد السكين؟


أكتب عن شواهق العراق، لكوني من منبعه ومصبه، وبودي لو تبارى المتبارون من كل بلد عربي ليطالبوا بإرث الذين غابوا قبل أن تطوله يد الإهمال، أو البيع بالمزاد، بودي أن أرى من يتنادى لجمع إرث الطيب صالح ورجاء النقاش والماغوط والجاسر والربعي وعشرات غيرهم.


ماذا لو تحقق جمع إرث المبدعين والرواد في الوطن العربي، وطيف به في كل عاصمة تنتحل اسم عاصمة الثقافة لذاك العام. وأن «يساق» ويدعى لذاك المعرض العامة والخاصة. وبالأخص طلاب المدارس والجامعات، لحث الوعي، وشحذ الهمم، ليروا آثار الجيل السابق، وكيف حفروا بسن الإبرة على جلمود الصخر إبداعاتهم المعرفية والثقافية، للنهل منها، والنمو عبرها، لا لبيعها في مزادات الورق المكرر، ولا لدفنها في العراء تحت السمع والبصر.